مع نهاية العشرية الأولى من الألفية الحديثة بدأ الاستثمار العربي والشرق أوسطي يفرض تواجده بقوة كبيرة في صناعة كرة القدم الأوروبية من خلال ضخ مليارات الدولارات عن طريق شراء حقوق الملكية لأندية أوروبية ومحاولة بناء مشاريع رياضية طويلة الأمد والاستفادة من رأس المال لأقصى درجة لبناء فرق تهدف إلى المنافسة في جميع البطولات والمحافل الكبرى.
المثالين الأكبر على هذه الحالة هما مشروع مانشستر سيتي في انجلترا و مشروع باريس سان جيرمان في فرنسا, وهما مشروعان متشابهان للغاية من حيث المبدأ والخطط طويلة الأمد, بل ويتشابهان أيضا في كون الهدف الأسمى لكل منهما هو التتويج بلقب دوري أبطال أوروبا, وهو ما لم ينجح أي منهما في تحقيقه حتى اللحظة.
بدايات مشروع مانشستر سيتي
مشروع مانشستر سيتي بدأ في صيف العام 2008 عندما قرر الشيخ منصور بن زايد أن يقوم بشراء نادي مانشستر سيتي الذي كان غارقا في الديون ان ذاك في فترة كان ينافس فيها على مراكز الهبوط, واذا تحسن به الحال وصل الى منتصف جدول الترتيب. وبالفعل, اتم منصور بن زايد صفقة شراء مانشستر سيتي وقدم الوعود لجماهير الفريق في حل جميع المشاكل المالية والديون التي يعاني منها النادي, وبأن عصرا تاريخيا سيبدأ مع وصوله ستشهد فيه الكرة الانجليزية ميلاد فريق خارق اخر يهدف للمنافسة على جميع الألقاب.
بداية مشروع باريس سان جيرمان
مشروع باريس سان جيرمان على الناحية الأخرى انطلق في عام 2011 عندما قام جهاز قطر الاستثماري بقيادة مالك مجموعة بي إن سبورتس السيد ناصر الخليفي بشراء نادي العاصمة الفرنسية باريس سان جيرمان والإعلان عن بداية عصر جديد للكرة الفرنسية في فترة كان يسيطر فيها ليون وبوردو على المنافسة المحلية, بينما كان باريس سان جيرمان واحدا من فرق وسط الجدول دون أي طموح حقيقي للمنافسة على أي ألقاب.
أسباب التقبل العام لمشروع مانشستر سيتي مقارنة بمشروع باريس سان جيرمان
في واقع الحال, لا تختلف نتائج مشروع مانشستر سيتي عن مشروع باريس سان جيرمان كثيرا, فكلاهما نجح في تحقيق العديد من النجاحات على صعيد البطولات المحلية. مانشستر سيتي هو أكثر الفرق الانجليزية تحقيقا للألقاب في السنوات العشرة الأخيرة, أما باريس سان جيرمان فقد فرض سيطرة شبه مطلقة على صعيد البطولات المحلية في فرنسا وتمكن خلال 11 عاما من التتويج بلقب الدوري المحلي 8 مرات, كما فشل كلاهما في تحقيق النجاح الأوروبي المطلوب حتى اللحظة.
وعلى الرغم من هذا التقارب في النتائج والانجازات, لا يخفى على أحد أن الشارع الرياضي يميل لتقبل مشروع مانشستر سيتي بشكل أكبر والاعتقاد بأنه أكثر نجاحا وقوة من مشروع باريس سان جيرمان في فرنسا, فما هي الأسباب وراء ذلك؟ وما هي الحالة التي ستجعل مشروع باريس سان جيرمان يأخذ نفس قيمة التقدير التي يحظى بها مشروع مانشستر سيتي في انجلترا؟
اختلاف بيئة المنافسة
في واقع الأمر, العامل الأبرز الذي يجعل مشروع مانشستر سيتي يحظى بتقدير أكبر هو المكان الذي تم فيه تطبيق المشروع. ناصر الخليفي اختار الاستثمار في فرنسا, وهي دولة لم تكن فرقها تنجح في بلوغ أدوار متقدمة على مستوى البطولات الأوروبي حتى قبل الاستثمار القطري, كما لا تحظى مباريات الدوري الفرنسي بالمتابعة والتغطية الكافيتين لضعف المنافسة. الدوري الإنجليزي على الناحية الأخرى هو الدوري الأقوى عالميا من ناحية التغطية الاعلامية والاهتمام الجماهيري, كما يضم الدوري نخبة من صفوة الفرق على المستوى الأوروبي على غرار أندية مانشستر يونايتد, ليفربول, تشيلسي وأرسنال.
هذه الأجواء المختلفة بين الدوريات التي يتنافس فيها الفريقين جردت ألقاب باريس سان جيرمان المحلية العديدة من الكثير من قيمتها, حيث اعتبر الشارع الرياضي أن هذه الإنجازات جاءت في ظل غياب أي منافسين حقيقيين عن الساحة, وأن الفارق في القوة الشرائية بين باريس وغيره من أندية الدوري الفرنسي كفيل بتأمين جميع الألقاب المحلية للفريق العاصمي دون الحاجة إلى مشروع حقيقي, وهو منافي تماما لما نجح مانشستر سيتي في تحقيقه.
مانشستر سيتي اصطدم عند بداية مشروعه في عام 2008 بتواجد فرق من العيار الثقيل جدا على مستوى الكرة الانجليزية. يكفيك عزيزي القارىء أن تعلم أن طرفي نهائي دوري أبطال أوروبا في عام 2008 كانا مانشستر يونايتد وتشيلسي الإنجليزيين, وهما الفريقان اللذان كانا يسيطران على أجواء الكرة الانجليزية وقتها بجانب وجود فرق أخرى من العيار الثقيل من وزن ليفربول, آرسنال وتوتنهام هوتسبير. مهمة السيتي كانت معقدة أكثر, والتحدي كان على أعلى المستويات, وبالتالي فإن نجاح مانشستر سيتي في التفوق على هذه الفرق لاحقا وتحقيق العديد من البطولات المحلية أمامهم جعل الجمهور يعطي الكثير من الاحترام والتقدير لهذا المشروع الذي نجح في مقارعة كبار انجلترا في الدوري الأصعب في العالم.
وعلى الرغم من أن عدد البطولات والكؤوس التي نجح باريس سان جيرمان في التتويج بها يفوق مانشستر سيتي, إلا أن بطولات السيتي تركت انطباعا أقوى عند الجماهير والمحللين باعتبارها بطولات تحققت في ظروف صعبة أمام منافسين من العيار الثقيل, وأحيانا بسيناريوهات تاريخية لا تمحى من الذاكرة كما حدث في مسابقتي الدوري في عام 2012 والموسم الماضي.
اختلاف بيئة المنافسة بين السيتي وباريس سان جيرمان جعل الضغوط على السيتي أقل من باريس سان جيرمان, وأصبح من الكافي أن يتوج مانشستر سيتي بلقب الدوري, ولا مشكلة في أن يحل ثانيا أحيانا لكي يعترف العالم بقوة هذا الكيان. أما باريس سان جيرمان فلم يترك أي مجال للاشادة بمشروعه, بل أصبح النجاح مرتبطا بفكرة التتويج بلقب دوري أبطال أوروبا, وهو ما لم ينجح الفريق في تحقيقه حتى الآن في ظل ضغوط تتزايد موسما تلو الاخر.
التوجيه الصحيح للأموال
لا يمكن الادعاء أن باريس سان جيرمان قام بصرف أموال أكثر من السيتي أو العكس, فالفريقان قاما بضخ مبالغ مهولة فاقت الكثير من عمالقة أوروبا على مدار العقد الماضي, إلا أن الفرق بين سياسة الصرف الخاصة بمشروع مانشستر سيتي ومشروع باريس سان جيرمان تمثلت في أن إدارة مانشستر سيتي اعتمدت على التخطيط الجيد و القيام بإبرام صفقات مهمة رياضيا من أجل بناء فريق قوي على أرض الملعب, مع إدراك تام أن النجاح الرياضي هو العامل الأهم في تقييم المشروع.
ادارة باريس سان جيرمان قامت هي الأخرى بإبرام العديد من الصفقات المهمة التي ساهمت في تحسين وضع الفريق, إلا أن التركيز على جلب النجوم وتفضيلهم على اللاعبين الذين يحتاجهم الفريق في بعض الأوقات ترك أثرا غير جيد عند المتابعين والخبراء, وأصبح الفريق الباريسي معروفا ب”نادي الأموال” على الرغم من أنه ليس الفريق الأكثر انفاقا في أوروبا خلال السنوات العشرة الماضية.
مانشستر سيتي ومنذ السنوات الأولى كان واضحا في سياسة اختياره للاعبين الذين يسعى للتعاقد معهم, فهو بدأ ذلك من خلال التوقيع مع لاعبين أمثال روبينيو, باتريك فييرا, دافيد سيلفا, يايا توريه, ايدين دجيكو, كارلوس تيفيز وغيرهم من اللاعبين الآخرين. اختيارات وضحت للجميع أن الفريق الأزرق يهدف بشكل أساسي للتعاقد مع لاعبي الخبرة وذوي الكفاءة العالية في الملعب, ولم يعطوا الكثير من الاهتمام للصفقات الترويجية في بداية المشروع, بل كان الاهتمام الأكبر في بناء فريق صلب قادر على المنافسة على المدى القصير أولا, وقادر على نقل خبراته للأجيال القادمة والتتويج بالألقاب والبطولات على المدى البعيد ثانيا.
وتواصلت تلك السياسة الممنهجة في عملية التعاقد مع اللاعبين من خلال التركيز على إبرام الصفقات التي ستسهم بالمقام الأول بتحسين شكل الفريق, فتم التعاقد مع كيفين دي بروين, بيرناردو سيلفا, روبين دياز, جواو كانسيلو, كايل ووكر وغيرهم من اللاعبين, الذين لم يصلوا للنادي وهم لاعبو صف أول, بل أصبحو كذلك وهم يلعبون في صفوف السيتي مما نتج عنه تطور المنظومة الجماعية للفريق موسم بعد الآخر.
باريس سان جيرمان بدوره اتجه مع بداية مشروعه الى التعاقد من النجم السويدي زلاتان ابراهيموفيتش, ثم ألحقه بالتعاقد مع النجم الإنجليزي دافيد بيكهام في اخر سنينه مع المستديرة. وتواصل الإنفاق العشوائي من قبل ادارة باريس سان جيرمان في الكثير من الصفقات حتى الصيف الماضي عندما قام النادي بالتعاقد مع ليونيل ميسي وسيرجيو راموس في صفقات هدفها إعلامي ترويجي بحت في الوقت الذي يبحث فيه الفريق عن تكوين مشروع رياضي طويل الأمد. صفقات تسببت في تغير جلد الفريق بشكل مستمر, وفشل أي مدرب في خلق منظومة ثابتة وصلبة يمكن البناء عليها على الرغم من وجود الكثير من النجوم.
لا يمكن الجزم بأن صفقات باريس المذكورة أعلاه قد فشلت بشكل تام, ولكنها بكل تأكيد لم تأتي بالمطلوب, أو حتى بنصفه. أما السيتي فقد تمكن خلال السنوات الأخيرة في بناء فريق قوامه واضح نجح بالتدرج بشكل جيد على مستوى الكرة الانجليزية والأوروبية حتى أصبح الفريق الأقوى في الدوري الأول في العالم, وأحد أقوى المنافسين بشكل مستمر على لقب البطولة الأوروبية الأغلى التي لا زال يبحث عن لقبه الأول فيها, بينما لا يزال باريس سان جيرمان في طور الفريق الذي يحاول وضع حجر الأساس في بيت مليء بالنجوم!
النجاح في التعاقد مع المدربين
مانشستر سيتي تعاقد مع ثلاثة مدربين خلال 15 سنة, بينما تعاقد باريس سان جيرمان مع ضعف عدد المدربين خلال 11 سنة فقط! هي احصائية توضح لك عزيزي القارىء أن معدل عمر المدرب في مانشستر سيتي هو 5 مواسم, مقابل موسم ونصف في باريس سان جيرمان! وهي بالتالي توضح لك أن ادارة مانشستر سيتي تقوم باختيار المدربين بعناية شديدة ليتناسب الاختيار مع المرحلة والظروف التي يمر بها الفريق, كما تقوم بإعطاء الثقة الكاملة للمدرب من خلال الإيمان بمشروعه لأبعد الحدود.
مشروع مانشستر سيتي بدأ من خلال التعاقد المدرب الايطالي المخضرم روبيرتو مانشيني في عام 2009 ليبقى على رأس الادارة الفنية للفريق لمدة 4 مواسم نجح خلالها في تحقيق ثلاثة بطولات مع الفريق منها لقب الدوري التاريخي في عام 2012. في السنة اللاحقة قررت الادارة انهاء التعاقد مع روبرتو وتوجهت للمدرب التشيلي مانويل بيليجريني املة في تحسين شكل الفريق على المستوى الأوروبي, وبقيت مؤمنة بمشروعه لمدة ثلاثة مواسم نجح فيها الفريق في تحقيق لقب الدوري الإنجليزي في الموسم الأول, كما بلغ الدور نصف النهائي من مسابقة دوري أبطال أوروبا للمرة الأولى في تاريخه في عام 2016.
وفي صيف العام 2016 قررت ادارة الفريق الأزرق بقيادة الشيخ منصور التعاقد مع بيب جوارديولا وتعهدت بإبرام جميع الصفقات التي يرغب بها المدرب العبقري لإتمام مشروعه بالشكل الأمثل. وعلى الرغم من فشل جوارديولا في موسمه الأول مع الفريق و حلوله رابعا في مسابقة الدوري, بقيت إدارة الفريق مؤمنة بمشروع بيب وأفكاره, وهو القرار التي أسفر لاحقا عن فوز الفريق بمسابقة الدوري الانجليزي في أربعة مناسبات خلال المواسم الخمسة الماضية! مانشستر سيتي نجح مع بيب في بلوغ الدور النهائي من مسابقة دوري الأبطال في موسم 2020/2021, كما بلغ نصف النهائي في الموسم الماضي ولا تزال ادارة السيتي ترى أنه الرجل الأمثل لتحقيق الهدف المنشود.
مشروع باريس سان جيرمان على الناحية الأخرى بدأ من خلال التعاقد مع المدرب الإيطالي المخضرم كارلو أنشيلوتي في عام 2011, ولم تصبر عليه الإدارة أكثر من موسمين لتقوم بالتعاقد مع المدرب لوران بلان ثم اوناي ايمري توماس توخيل دون أن تصبر على أي مشروع أي مدرب منهم, وهو نفس المصير الذي واجهه ماوريسيو بوتشيتينو مؤخرا مع الفريق الباريسي. سياسة تظهر أن ادارة الفريق لا تعطي المدربين الوقت والثقة اللازمة لبناء مشروع طويل الأمد, فهي تلجأ للتغيير دائما عند مواجهة أي مشاكل.
الخلاصة – لماذا يحظى مشروع مانشستر سيتي بقبول أكبر من مشروع باريس سان جيرمان؟
الأسباب الثلاثة المذكورة أعلاه هي إجابة كافية لتوضيح أسباب تقبل الرأي العام لمشروع مانشستر سيتي مقارنة بمشروع باريس سان جيرمان, ويمكن تلخيص هذه الأسباب الثلاثة في أن إدارة مانشستر سيتي كانت أكثر حكمة و صبرا في ادارة ملفات مشروعها مقارنة بإدارة باريس سان جيرمان. إدارة مانشستر سيتي نجحت في اختيار المكان والدوري المناسب لإقامة مشروعها فيه, كما نجحت في التوقيع مع اللاعبين الذين يحتاجهم الفريق لبناء منظومة جماعية فريدة من نوعها وصبرت على مشاريع الكثير من المدربين ومنحتهم الوقت والإمكانيات اللازمة لتحقيق الأهداف المطلوبة.
أما ادارة ناصر الخليفي لمشروع باريس سان جيرمان فبقيت تحت طائلة النقد, حيث يعتبر الكثير من الخبراء أن مشروعا بحجم باريس سان جيرمان والأموال التي تم ضخها فيه لا يتناسب مع حجم الدوري الذي ينشط الفريق فيه من الأساس. بالإضافة إلى ذلك, تعرضت ادارة الفريق الباريسي للنقد الكثير في مسألة التعاقد مع المدربين أولا واللاعبين ثانيا.
للمزيد من أخبار الرياضة, تابع أخبار العراق.