كرة القدم في قارة أوروبا هي الأعلى من ناحية القيمة والمستوى في عالم كرة القدم في يومنا هذا, وهو ما يتجلى بشكل واضح في الشعبية الجارفة التي تحظى بها كبار أندية كرة القدم الأوروبية والمتابعة الضخمة لأقوى الدوريات الأوروبية والسيطرة المطلقة لمتخبات القارة العجوز على منافسات بطولة كأس العالم التي لم يتوج بلقبها أي منتخب غير أوروبي منذ فوز البرازيل باللقب في كوريا الجنوبية واليابان عام 2002.
كرة القدم بشكلها الاحترافي والتنافسي انطلقت في قارة أوروبا وتحديدا في انجلترا مع نهايات القرن التاسع عشر وانتشرت خلال العقود اللاحقة في العديد من الدول الأوروبية, لكنها في ذات الوقت لم تشهد طفرة في المستوى وكانت تلقى منافسة شديدة من قارة أمريكا الجنوبية التي عرفت منذ قديم الزمان بقدرتها على تخريج لاعبين ذوي مهارة عالية تفوق حتى مهارة اللاعب الأوروبي بحكم الفرق في البيئة والتكوين.
كرة القدم الأوروبية والحرب العالمية
كرة القدم الأوروبية تعرضت للعديد من الضربات والأزمات التي تسببت في تأخير انتشارها, ولعل السببين الأبرز وراء ذلك هما الحربين العالمية الأولى والثانية, وتحديدا الأخيرة. الحرب العالمية الثانية تسببت في توقف النشاط الرياضي بشكل عام في قارة أوروبا, وهو بالتالي ما عطل عجلة انتاج اللاعبين في القارة العجوز في فترة لم تؤثر الحرب فيها على كرة القدم في أمريكا الجنوبية بالدرجة التي أثرت بها في أوروبا لأسباب جغرافية وبعد قارة أمريكا الجنوبية عن الأحداث في ذلك الوقت.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1943 لم تتعافى كرة القدم الأوروبية من الأزمات التي أحاطت بها بشكل سريع, بل وجدت الجهات المختصة في ذلك الوقت العديد من المشاكل والعقبات في تصعيد لاعبين جيدين بسبب انعدام ممارسة الرياضة الشعبية في أغلب الدول الأوروبية خلال فترة الحرب العالمية الثانية. بقيت عجلة كرة القدم الأوروبية تدور ببطىء شديد لمدة فاقت ال10 سنين وفشلت المنتخبات الأوروبية في حصد أول لقب كأس عالم بعد الحرب العالمية الثانية والذي أقيم عام 1950 في البرازيل وتوج به منتخب الأوروغواي.
بداية عصر النهضة في كرة القدم الأوروبية
في بداية الخمسينيات من القرن الماضي شهدت كرة القدم في قارة أمريكا الجنوبية تطورا واضح على مستوى المواهب واللاعبين, وأصبح العالم يميل الى تصديق فكرة أن اللاعب الأمريكي الجنوبي يتمتع بامكانيات ومهارات أكبر من لاعب كرة القدم الأوروبية. في تلك السنين لم يكن الاحتراف شيئا متعارفا عليه لصعوبة السفر والتنقل حينها, وبالتالي كانت الدوريات المحلية في أمريكا الجنوبية تحظى بنفس الصيت والسمعة التي تحظى بها الدوريات المحلية في أوروبا بل وفاقتها في بعض الفترات, حتى حصل حدث تاريخي في عام 1954 تسبب في تغيير خارطة كرة القدم في العالم بشكل تام.
في عام 1954 توج منتخب ألمانيا الغربية بلقب كأس العالم, وهو ما أعتبره الكثيرون استردادا لسمعة كرة القدم الأوروبية. وفي نفس السنة تم تأسيس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم بهدف تطوير اللعبة في القارة, وجاء هذا الاتحاد مع تأسيسه بفكرة مشروع مختلف وهو أن يتم انشاء بطولة تجمع بين الأندية الكبرى من مختلف دول القارة العجوز وأطلقو عليها اسم “كأس الأندية الأوروبية البطلة”, أو ما يعرف اليوم ب “دوري أبطال أوروبا”.
كان السبب الرئيسي وراء انشاء هذه البطولة هو ادراك الاتحاد الأوروبي لكرة القدم أن هذه الرياضة لم تعد تمثل اللعبة الشعبية الأولى في العالم وحسب, بل أن عواقب الحرب العالمية الثانية وانتشار النظام الرأسمالي بشكل متسارع في جميع بقاع الأرض كان سيؤدي في النهاية الى تحويل رياضة كرة القدم الى صناعة كبرى من شأنها جلب الكثير من الأموال.
الاتحاد الأوروبي لكرة القدم كان يهدف من خلال اطلاق بطولة كأس الأندية الأوروبية البطلة الى جمع الفرق المتوجة بألقاب الدوريات المحلية في بطولة كبرى يتنافس فيها جميع الأبطال في القارة. الاتحاد الأوروبي لكرة القدم كان يرى أن بطولة من هذا النوع من شأنها أن تجذب الكثير من الجماهير والمتابعين والتغطية الاعلامية, وبالتالي ستشكل منتجا يمكن من خلاله الحصول على الكثير من الأرباح.
ولم يتوقف الأمر هنا, بل أطلقت مجلة فرانس فوتبول الفرنسية جائزة الكرة الذهبية للمرة الأولى في عام 1956 وكانت وقتها جائزة تعطى لأفضل اللاعبين الأوروبيين في القارة العجوز حصرا مع تقديم مكافات مالية كبيرة للفائزين فيها وقتها. جائزة الكرة الذهبية في ذلك الوقت مثلت اغراءا كبيرا للأطفال المحبين لكرة القدم في أوروبا, وذلك لأنها جعلتهم يدركون أن كرة القدم لم تعد مجرد رياضة أو لعبة, بل أصبحت مهنة يمكن من خلالها تحقيق الشهرة والظهور على غلاف أشهر مجلات وصحف العالم من ناحية, وتحقيق الثراء والأموال من ناحية أخرى.
في ذلك الوقت كان يعتبر لاعبو كرة القدم الشهيرين في أمريكا الجنوبية أبطالا قوميين في بلادهم, ولكنهم كانوا يعيشون حياة صعبة على الصعيد المادي نتيجة للفقر المنتشر بشكل عام في بلاد أمريكا الجنوبية انذاك. كرة القدم الأوروبية استغلت ذلك بشكل كبير وبدأت مساعيها في محاولة جلب أفضل اللاعبين من قارة أمريكا الجنوبية والقيام بتجنيسهم من أجل الحصول على فرصة المنافسة على جائزة الكرة الذهبية, وأبرز مثال على ذلك هو انتقال ألفريدو دي ستيفانو من بلاده الأرجنتين منضما لنادي ريال مدريد الاسباني بعد أن تم منحه الجنسية الاسبانية وتمكن بالفعل من الفوز بجائزة الكرة الذهبية في مناسبتين.
تتويج دي ستيفانو بجائزة الكرة الذهبية جعل الكثير من اللاعبين في أمريكا الجنوبية في تلك الفترة يفكرون جديا بالاحتراف في كرة القدم الأوروبية بعد أن شاهدوا النقلة التي حصل عليها دي ستيفانو. على الرغم من أن حركة انتقالات اللاعبين من أمريكا الجنوبية الى أوروبا لم تكن سهلة في تلك السنين بسبب عدم انتشار مفهوم الاحتراف بشكل كبير انذاك, الا أن الاتحاد الأوروبي كان يهدف الى ايصال رسالة واضحة للعالم مفادها أن المجد الكروي يعني اللعب في أوروبا.
كرة القدم الأوروبية في الربع الأخير من القرن العشرين
مشاريع وأفكار الاتحاد الأوروبي لكرة القدم أتت بثمارها ونجحت كرة القدم الأوروبية خلال عقد ونصف من الزمن في تحقيق طفرة كبيرة على مستوى التغطية الاعلامية والمتابعة الجماهيرية لبطولاتها, مما دفع الاتحاد الأوروبي لدعم الاتحادات المحلية في أوروبا من أجل تطوير الدوريات الأوروبية بشكل أكبر. شهدت كرة القدم الأوروبية في فترة السبيعينات تجديدا وتوسيعا للملاعب وزيادة عدد المدرجات لزيادة عدد الحضور وبالتالي زيادة الايرادات والأرباح العائدة على الأندية والاتحادات.
في تلك الفترة من الزمن, كان العالم لا يزال يؤمن بفكرة أن لاعب كرة القدم في أمريكا الجنوبية هو الأعلى مهارة بالفطرة بما فيهم الأوروبيون, الا أن المشرفين على ملفات تطوير كرة القدم الأوروبية في ذلك الوقت كانوا يرسخون لفكرة أن كرة القدم هي لعبة جماعية وكانو يعملون بشكل متواصل على تحضير وتطوير خطط وتكتيكات كروية جديدة و زرعها في عقل اللاعب الأوروبي منذ الصغر بهدف تخريج لاعبين قد يكونون أقل مهارة من اللاعبين في أمريكا الجنوبية, ولكنهم أشد ذكاءا وأكثر تنظيما في الملعب.
الاتحاد الأوروبي لكرة القدم في ذلك الوقت كان يدرك أن الحل الوحيد لمواصلة التطور والسيطرة على أجواء الكرة العالمية هو أن يتم التوصل الى طرق وأساليب جديدة لكسب الأموال وضخها في تطوير اللعبة. في منتصف السبعينيات تم تطوير نظام حقوق البث والرعاة وأصبحت الأموال توزع على الاتحادات والأندية الأوروبية بنسب متفاوتة بهدف تحسين البنية التحتية للملاعب والمنشات الرياضية للأندية في كرة القدم الأوروبية.
الأندية الأوروبية الكبرى أصبحت تحقق ايرادات وأرباح كبيرة نتيجة لذلك, وأصبحت بالتالي قادرة على دفع أجور أعلى, وهو ما كان مغريا للاعبين الناشطين في أمريكا الجنوبية. وبالفعل, زادت مع بداية الثمانينات حركة انتقال اللاعبون من أمريكا الجنوبية الى أوروبا بشكل كبير وشاهدنا العديد من أساطير الكرة في أمريكا الجنوبية في ذلك الوقت يتركون دورياتهم المحلية وفرقهم الأم ويتجهون الى أكبر أندية كرة القدم الأوروبية وأبرزهم دييجو ارماندو مارادونا, مانولو سانشيز وبوتراجينيو.
الأمر ذاته تواصل مع الدخول في العقد الأخير من القرن العشرين, وفي عام 1995 قررت مجلة فرانس فوتبول أن جائزة الكرة الذهبية سيتم منحها لأي لاعب أيا كانت جنسيته بشرط أن يكون ناشطا في أحد فرق كرة القدم الأوروبية وتوج الليبيري جورج وياه بالجائزة في نفس السنة حيث كان لاعب لنادي اي سي ميلان الايطالي. تتويج الأفريقي جورج وياه بجائزة الكرة الذهبية شجع اللاعبين من بقية بقاع العالم للبحث عن فرص الاحتراف في أكبر الدوريات في أوروبا, وبالتالي فان كرة القدم الأوروبية لم تعد بحاجة للبحث عن المواهب, بل المواهب هي من أصبحت تبحث عن عقود اللعب في أوروبا بهدف الحصول على المال والشهرة.
كرة القدم الأوروبية في القرن الحديث
تواصلت زيادة الفجوة بين كرة القدم الأوروبية ونظيراتها في العالم مع مرور السنين, ومع بداية القرن الحديث أصبح أشهر لاعبو كرة القدم في أمريكا الجنوبية ينشطون في الدوريات الأوروبية الكبرى, فحتى منتخب البرازيل الذي توج بكأس العالم 2002 كان قائما بالأساس على مجموعة من اللاعبين المحترفين في أكبر الأندية الأوروبية مثل ريفالدو في اي سي ميلان ورونالدو في انتر ميلان وقتها.
ومع عملية التفريغ التدريجي للدوريات المحلية في أمريكا الجنوبية من النجوم واستقطابهم من قبل الأندية الأوروبية الكبرى, أصبحت كرة القدم الأوروبية مهيمنة بشكل شبه كامل على زمام الأمور ونقلت الأمر الى مرحلة أكثر احترافية, حيث بدأت الأندية الأوروبية بطلب من الاتحادات المحلية والاتحاد الأوروبي لكرة القدم في تنظيم رحلات صيفية الى مختلف دول العالم للعب بعض المباريات الودية في أمريكا واسيا من أجل الترويج للعلامة التجارية للأندية و زيادة جماهيرية الفرق الأوروبية في تلك الدول وهو ما نجح بالفعل.
حقوق البث والرعاية وصلت الى أرقام فلكية تقدر بمئات الملايين من الدولارات سنويا, وأصبحت أندية كرة القدم الأوروبية قادرة على التوقيع مع أفضل اللاعبين ودفع أجورهم والاستفادة من الاعلانات والحملات الترويجية التي يقومون بها, وهو ما لم تكن أندية أمريكا الجنوبية أو بقية أندية العالم قادرة على فعله بسبب ضعف السيولة.
سيطرة الكرة الأوروبية على أحداث الكرة العالمية في القرن الحديث تبدو واضحة من خلال التعرف على نتائج المنتخبات الأوروبية في بطولات كأس العالم في القرن الحديث. منذ تتويج البرازيل في 2002, لم يتمكن أي منتخب غير أوروبي من تحقيق البطولة أو الوصول الى الدور النهائي باستثناء الأرجنتين التي لعبت نهائي كأس العالم 2014 وخسرته أمام ألمانيا في ريو دي جانيرو.
كأس العالم 2006 في ألمانيا شهد تواجد أربعة منتخبات أوروبية في المربع الذهبي وهي منتخبات ايطاليا, فرنسا, ألمانيا والبرتغال, أما كأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا فقد شهد وصول ثلاثة منتخبات أوروبية الى المربع الذهبي وهي منتخبات ألمانيا, اسبانيا وهولندا بجانب منتخب الأوروغواي. في 2014 نجح منتخبان من أمريكا الجنوبية في بلوغ المربع الذهبي وهما الأرجنتين والبرازيل الذان واجها هولندا وألمانيا انذاك, أما نسخة 2018 في روسيا فقد شهدت تواجد أربعة منتخب أوروبية في المربع الذهبي مرة أخرى وهي منتخبات فرنسا, بلجيكا, انجلترا وكرواتيا.
كرة القدم الأوروبية والمدارس المختلفة
على مدار تطورها خلال العقود الماضية شهدت كرة القدم الأوروبية ظهور العديد من المدارس الكروية المختلفة بداية من مدرسة الكرة الشاملة في هولندا التي أسس لها الأسطورة يوهان كرويف, مرورا بمدرسة الكاتيناتشو الايطالية في اواخر الثمانينات التي طورها ايريجو ساكي وصولا الى تيكي تاكا اسبانيا وبرشلونة مع العبقري بيب جوارديولا.
هذه المدراس والمناهج الكروية تختلف بشكل كبير في مضمونها, ولكن تجمعها فكرة أن كرة القدم رياضة جماعية, وأن الفريق المنظم دائما أقوى من اللاعب المهاري وهو ما لا تزال كرة القدم الأوروبية تحاول ترسيخه في عقول لاعبيها منذ المراحل السنية الصغيرة وحتى التصعيد الى الفرق الأولى.
في يومنا هذا, أصبحنا نشاهد العديد من اللاعبين العالميين القادمين من قارات مختلفة مثل اسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية والقادرين على المنافسة بشكل كبير في أفضل الدوريات الأوروبية, الا أن المنتخبات والدوريات الأوروبية لا تزال هي الأفضل على مستوى العالم بشكل عام, فما السبب في ذلك؟
السبب في ذلك لخصه المدرب الايطالي الشهير فابيو كابيلو عندما قال: “لا يمكن لأي مدرب أو أكاديمية أو مركز تدريبي أن يقوم بصناعة أسطورة, فالأسطورة في كرة القدم هي حالة شاذة لا تحدث كثيرا ولا يمكنك التحكم في احتمالية حدوثها من عدمها كثيرا, والأساطير في كرة القدم الأوروبية ليسو أكثر من أساطير الكرة في أمريكا الجنوبية وأفريقيا. لكننا هنا في أوروبا نهدف بشكل واضح الى صناعة أجيال قادرة على اللعب في منظومة صلبة وتحت أفكار واضحة. لا يهم من اللاعب, الأهم هو أن الفكرة التي يقوم بتطبيقها هي نفسها التي يتدرب عليها وهو في الفئات العمرية, مما يجعل تطبيقها أسهل عليه عندما يكبر”
الدليل على الأكبر على صحة كلام كابيلو هو عدم وجود أي لاعب في منتخب بلجيكا اليوم بقيمة المصري محمد صلاح أو السنغالي ساديو ماني, ومع ذلك يعتبر منتخب بلجيكا المصنف الأول على مستوى العالم حاليا بحسب تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم بينما تعتبر منتخبات السنغال ومصر منتخبات من المتوسطة الى الجيدة فقط لا أكثر على الرغم من امتلاكهما لاثنين من أفضل لاعبي العالم حاليا, والسبب في ذلك هو الافتقار للرؤية الصحيحة و الموارد المادية المناسبة لاعداد أجيال قوية في هذه الدول.
للتعرف على المزيد من أخبار الرياضة والمقالات الرياضية, تابع أخبار العراق.